فحص مرض داون في الجنين
كان الجنين عبر العصور يُخلق ويتشكل وينمو في عالم مغلق لا نعرف عنه شيئاً حتى تحين ساعة ميلاده. ثم في أقل من سبعين عاماً فُتحت النوافذ على مصاريعها لنراقب ونشاهد ونسمع بكثير من الذهول وقليل من الفهم ما يحدث لتلك المخلوقات الصغيرة في الأرحام لتنتقل من خلية واحدة لا حول ولا قوة لها الى مخلوق عظيم فيه من روح الله الكثير الكثير.
كانت الأمواج التي ركبناها لنبحر في عالم من الماء الصافي يلف الجنين في رحم أمه أمواجاً غير تلك التي ألفناها. كانت أمواجاً من الصوت فائقة السرعة بحيث لا تتمكن أذن بشرية من سماعها. وكان اكتشافها أهم اكتشاف في أحد فروع الطب الحديث وكان سبباً لولادة علم جديد هو طب الجنين.
وكما الحال في بداية كل خلق صار هذا العلم ينمو ويكبر ويزداد عمقاً وقدرة على الغوص في الأعماق وسبر الأسرار. توالت الإكتشافات وما زالت حتى رفع الستار عن اكتشاف آخر كبير اعتبره الكثيرون أهم تقدم في قدرة الطب على رعاية الجنين قبل الولادة منذ اختراع التصوير بالأمواج فوق الصوتية (ألتراساوند).
أنا أتحدث عن فحص الحمض النووي DNA للجنين وهو ما يحمل شيفرته الوراثية، والذي تم اكتشاف أجزاء منه تسبح مستقلة حرة خارج الخلايا ولكنها تجري مصاحبة خلايا الأم في شرايينها وأوردتها.
إنه (cell-free fetal DNA-based noninvasive prenatal testing (NIPT.
فحص حمض الجنين النووي الحر في دم الأم
تجري في عروق كل انسان قطع صغيرة من حمضه أو حمضها النووي وتكون حرة غير مقيدة داخل خلية ما. ولكن ما يميز دم الأم الحامل عن غيرها أن قطع الحمض النووي الحرة في عروقها ليست كلها من حمضها النووي هي، بل تشكل أجزاء من حمض جنينها النووي عشرة بالمائة من مجموع الحمض النووي الحر الموجود في دمها. وتختفي هذه القطع بسرعة بعد أن تضع مولودها بساعات معدودة.
ونتيجة اكتشاف العلم لهذه الظاهرة المثيرة ظهر فحص مرض داون في الجنين بهدف الكشف عن وجود الأمراض الناتجة عن وجود خطأ في عدد كروموسومات الجنين من خلال عينة من دم أمه. ومن أشهر هذه الأمراض متلازمة داون أو ما كان يعرف بالأطفال المنغوليين ( ولكننا لا نشجع على استعمال الإسم القديم رأفة بأطفال منغوليا).
يعتبر هذا الفحص أحد فحوصات التحري screening test ولا يعتبر فحصاً تشخيصياً نهائياً diagnostic test. هذا يعني أنه فحصاً اولياً فإذا كانت النتيجة موجبة (أي تشير الى احتمال عالٍ لإصابة الجنين) تحتاج الى التأكيد وإجراء الفحص التشخيصي المباشر لخلايا الجنين أو المشيمة عبر أخذ عينة من المشيمة أو السائل الأمنيوسي.
يمكن إجراء فحص الحمض النووي الحر للجنين بأخذ عينة من دم الأم بعد مرور عشرة أسابيع عن بداية حملها. ويعتمد الفحص على عدّ قطع الحمض النووي الحرة والتي مصدرها الأصلي هو الكروموسومات المختلفة في الجنين ومن ثم تحديد نسبة أعدادها الى بعضها البعض. وتسمح معرفة هذه النسب بحساب احتمال كون الجنين مصاب بمرض ناتج عن خطأ في عدد كروموسوماته. فمثلاً ان وجد ان قطع الحمض النووي التابعة للكروموسوم رقم ٢١ أكثر من تلك التابعة للكروموسومات الأخرى يمكن الإستنتاج بأن احتمال كون الجنين مصاباً بمرض داون عالٍ.
هل هذا الفحص مفيد؟
- يتميز هذا الفحص عن باقي فحوصات التحري المتوفرة للكشف عن أخطاء في عدد الكروموسومات لدى الجنين بأنه حساس الى درجة عالية تصل الى ٩٩,٤ ٪، كما أن نسبة الخطأ فيه منخفضة لا تتعدى واحد بالألف في حالة مرض داون.
- يمكن أن يُجرى الفحص في مرحلة مبكرة من الحمل بعد مرور عشرة أسابيع فقط منه.
- تظهر نتيجة الفحص خلال مدة قصيرة هي ثلاثة الى خمسة ايام.
- اذا أظهر الفحص ان احتمال الإصابة منخفض يمكن الإطمئنان بثقة أكبر دون الحاجة الى الخضوع الى فحوصات اصعب مثل فحص المشيمة والسائل الامنيوسي.
من يحصل على فحص حمض الجنين النووي الحر؟
في الوقت الحالي يعتبر هذا الفحص من فحوصات الخط الثاني التي نطلبها للأم الحامل بجنين واحد (ليس بتوأم). فالرعاية المثلى للجنين تتطلب اجراء فحص تحرّي screening test من فحوصات الخط الأول لجميع الامهات الحوامل في الشهر الثالث (بين ١١ اسبوع و ١٣ اسبوع و٦ أيام) لتقدير احتمال اصابة الجنين بأحد امراض الكروموسومات الرئيسية واهمها واكثرها شيوعاً هو مرض داون. يتطلب الفحص الأول ويسمى الفحص المركّب combined test تصوير الجنين بالأمواج فوق الصوتية وقياس سماكة جلد رقبة الجنين ثم اخذ عينة من دم الأم وقياس مستوى هورمونين هما beta hCG و PAPP-A. فإذا اظهر هذا الفحص الأولي ان احتمال اصابة الجنين عالية ننتقل الى الخط الثاني من الفحوصات واعني هنا فحص الحمض النووي الحر في عينة من دم الأم الحامل.
اذا اظهر فحص الحمض النووي الحر ان احتمال اصابة الجنين عالية ايضاً ننتقل الى الفحص النهائي ويتطلب أخذ عينة من المشيمة او السائل الامنيوسي وعدّ الكروموسومات كاملةً لمعرفة ان كان الجنين فعلاً يحمل احد الأخطاء في عدد الكروموسومات مثل داون او غيره.
لماذا لا نجري فحص المشيمة او السائل الامنيوسي من البداية؟
يتطلب أخذ عينة من المشيمة او السائل الامنيوسي الى اجراء تداخلي يصل الى داخل الرحم، وهذا يزيد احتمال اسقاط الحمل (الإجهاض) بنسبة بسيطة قدرها ١١,.٪ في حالة عينة السائل الأمنيوسي و ٢٢,.٪ في حالة عينة المشيمة أعلى من نسبة الإسقاط المتوقعة لأي حمل عادي لم يتعرض لإجراء تداخلي. كما ان هناك نسبة ضئيلة لحدوث التهاب بعد الإجراء أو الشعور بالألم أثناءه.
أسباب الخطأ أو عدم الجزم في نتيجة فحص الحمض النووي الحر للجنين
- عدد قطع الحمض النووي الحر القادم من الجنين في عينة دم الأم ضئيل.
- اختفاء احد الجنينين في بداية الحمل بتوأم وبقاء احدهما فقط vanishing twin مما يعطي نتيجة موجبة ولكن خاطئة اذا كان التوأم غير متطابق non-identical.
- الإصباغ mosaicism. وهذه حالة يكون فيها عدد الكروموسومات القادمة من المشيمة مختلف عن تللك الموجودة في خلايا الجنين نفسه.
- يمكن لفحص الحمض النووي الحر ان يكشف انواع من السرطان لدى الأم حيث يكون الحمض النووي القادم من خلايا الأم السرطانية مختلف عن الطبيعي. كما يكشف أيضاً تلك الحالات التي فيها اختلاف في عدد كروموسومات الأم عن ما هو متوقع في الوضع الطبيعي maternal copy number variants. وتنتج عن مثل هذه الإختلافات غير المتوقعة نتيجة موجبة ولكن خاطئة لفحص الحمض النووي الحر.